الدراسات العربية والإسلامية في كتابات المستشرقين

2016-11-01

الدراسات العربية والإسلامية في كتابات المستشرقين

ندوة اقامها قسم الدراسات التاريخية




الدراسات العربية والإسلامية في كتابات المستشرقين
قراءاتٌ في التطورات المستقبلية

عَقَد قسم الدراسات التاريخية بالتعاون مع كلِّية الآداب في الجامعة العراقية يوم الأثنين المُوافق 24/10/2016م، ندوته العلمية الموسومة بـ: (الدراسات العربية والإسلامية في كتابات المستشرقين.. قراءاتٌ في التطورات المستقبلية)، على قاعة المؤتمرات في كلِّية الآداب / الجامعة العراقية، حيث كان المشاركون في هذهِ الندوة العلمية هم كلٌّ من:
1.    أ.د. مرتضى حسن النقيب (قسم التاريخ / كلِّية الآداب / جامعة بغداد).
2.    أ.د. صباح إبراهيم الشيخلي (قسم التاريخ / كلِّية الآداب / جامعة بغداد).
3.    أ.د. محمود عبد الواحد القيسي (قسم التاريخ / كلِّية الآداب / جامعة بغداد).
4.    أ.د. طارق نافع الحمداني (قسم التاريخ / كلِّية التربية (ابن رشد) / جامعة بغداد).
5.    أ.د. طارق نافع الحمداني. (أستاذ متمرس)؛ رئيس الجلسة.

افتتح السيد رئيس الجلسة وقائع الندوة بالترحيب بالسادة الحضور، مؤكِّداً على استمرار بيت الحكمة في صبِّ جلَّ اهتمامهِ لمعالجة أبرز وأهمِّ القضايا التاريخية والفكرية والتي من شأنها خدمة الحركة العلمية في العراق.
أمَّا عن موضوع الندوة وأهميتهِ بصورةٍ عامة، طارحاً تساؤل حول أهمية دراسة الاستشراق وما موقعه بين المذاهب الفكرية المعاصرة ؟. صحيح أنَّ الغرب ألغى مصطلح “استشراق” في المؤتمر الدولي للجمعية الدولية للمستشرقين (عام 1973م) التي أصبحت تُسمَّى “الجمعية الدولية للدراسات الإنسانية حول آسيا وأفريقيا”، ثمَّ أصبحت “الجمعية الدولية للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية”، ولكننا في العالم الإسلامي ما نزال نُصر على هذا المصطلح. وقد يكون للغرب مبرره في رفض التسمية وللمسلمين مبرراتهم في الاحتفاظ بهذا الاسم. ومهما يكن الأمر فإننا في العالم الإسـلامي نَعُدُّ  الاستشراق (الدراسات العربية والإسلامية في الغرب) من المواد التي تُدرس ضمن مقررات الدراسات الإسلامية بصفتهِ أحد المذاهب الفكرية الحديثة، ولذلك فإنَّ العديد من الكتب المتخصصة في الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفكرية المعاصرة تجعل الاستشراق أحد هذهِ المذاهب أو الاتجاهات. وتتناول الاستشراق بصورةٍ نمطيةٍ مكررة: نشأة الاستشراق، دوافع الاستشراق، وأهدافه، ومدارسهِ الجغرافية أو الفكرية. ولكن الحقيقة إنَّ مصطلح “استشراق” ما زال قائماً في الغرب حتَّى وإن تخلَّوا عنه رسمياً، فهذهِ شبكة المعلومات العالمية أو الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) تُقدم آلاف المواقع المتخصصة في الاستشراق قديماً وحديثاً. فهم وإن تخلَّوا عنه في العَلَن فإنَّه ما زال قائماً في أدبياتهم وفي نشاطاتهم الفكرية المعاصرة. فهل الاستشراق حقاً أحد المذاهب الفكرية أو الاتجاهات الفكرية ؟ وهل ينطبق على الاستشراق ما ينطبق على الوجودية أو الماركسية أو العولمة أو الماسونية ؟ هل يمكن البحث في الاستشراق بعيداً عن مثل هذا التصنيف ؟ وهل يمكن البحث فيه دون الأفكار المُسبقة بأنَّ الاستشراق شرٌّ كلَّهُ ؟...

ألقى الباحث الأول الدكتور مرتضى حسن النقيب ورقته البحثية التي أعدها لموضوع هذهِ الندوة، والمعنونة بـ: (الاستشراق الأمريكي.. ودلالاته الفكرية). مبيناً في البدء أنَّ في طليعة الذين قصدوا الشرق كموضوعٍ للمعرفة، وكميدانٍ للنشاط العلمي، ولاسيَّما في القرن التاسع عشر، شخصيات غربية من الخاصة (رحَّالة ومغامرون ومُبشِّرون وجامعيون ورجال أعمال وعسكريون ولغويون وإنثروبولوجيون ومؤرخو الحضارات وأركيولوجيون وموظَّفو الدوائر الحكومية...)، وقد أسهم بعض هؤلاء في التعرف على المواقع المُحتواة، أو المُرشحة للاحتواء، وأضيف إليهم منذ أوائل القرن العشرين: التربويون ورجال المخابرات والمؤرخون الاقتصاديون ومتدربو الشركات وخبراء الأسواق التجارية والسياسية وذوو النوايا الطيبة من المهتمين بحوار الشرق والغرب، وعلاقة المسيحية بالإسلام.
حاول الباحث تقديم تعريف دقيق لظاهرة الاستشراق، مبيناً أنَّه: “حقل من حقول المعرفة التاريخية ينتمي للفكر الأوربي الغربي”.
عاداً الاستشراق الأمريكي امتداداً واستمراراً للاستشراق الأوربي، وارثاً مُجمل تصوراتهِ الجاهزة عن العالم العربي والإسلامي، وترجع أولى إلتفاتات أمريكا إلى الشرق إلى سنة 1810م عِبرَ إرساليات التبشير التي تُعد “الجمعية التبشيرية الأمريكية” أهم مؤسَّساتها.
إلاَّ أنَّ الاستشراق الأمريكي بدأ عملياً بعد الحرب العالمية الثانية، عندما وجدت أمريكا نفسها مضطرةً لتحلَّ محل بريطانيا في المشرق العربي. وقد وجدت أمريكا رصيدها من معرفة الشرق الإسلامي ضئيلاً جداً، فحاولت الحكومة الفيدرالية استدراك هذا العجز، حيث أصدر مجلس الشيوخ مرسوماً عام 1958م باسم “مرسوم مجلس الدفاع القومي للتعليم” كان له أثر كبير في تشجيع الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية، وفي عام 1965م أصبحت اللغة العربية تُدرس في خمسةِ عشر مركزاً، أنشئت بأموال قدمتها الحكومة الفيدرالية، وتأسَّست عام 1959م “الرابطة الأمريكية لدراسة الشرق الأوسط”.
ونظراً لنشأة الاستشراق الأمريكي على اتصال وثيق بالاستشراق البريطاني، ما جعل خصائص الثاني تكاد تنتقل بكاملها إلى الأول، مع تفرد الاستشراق الأمريكي بمجموعةٍ من الخصائص التي حددت طبيعته، والتي قد تأتي في مقدمتها استقطاب الطاقات البشرية لخدمة الأمن القومي عِبرَ الاستشراق، حيث استقدمت الجامعات الأمريكية كثيراً من المستشرقين الإنكليز لدعم الدراسات العربية والإسلامية لديها، وكان من هؤلاء هاملتون جب الذي استقدمته جامعة هارفارد ليؤسِّس قسم دراسات الشرق الأوسط، كما استقدمت جامعة كاليفورنيا المُستشرق النمساوي جوستاف فون جرونباوم، وقدمت دعوات لأساتذة زائرين كان من أبرزهم برنارد لويس. كما توسع الاستشراق الأمريكي في الاستعانة بالباحثين العرب، ليس في مجال تدريس اللغة العربية فحسب، بل في مختلف المجالات العلمية، ولعلَّ من أقدمهم: فيليب حتِّي، مؤسِّس قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعةِ برنستونPrinceton University ورئيس هذا القسم، وقد جاء إلى برنستون بتأثير من الرئيس ويلسونThomas Woodrow Wilson (December 28, 1856–February 3, 1924) وصديقه بايارد دودج Bayard Dodge (1888-1972) رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، وكذلك بتأثير جمعياتٍ تنصيرية. ومن هؤلاء أيضاً: جورج حوراني، وشارل عيساوي، وجورج مقدسي، وفوزي متري نجار، وفضل الرحمن، الذي عُرِفَ بعداوتهِ للمسلمين، وكان رئيساً لقسم الدراسات الإسلامية بجامعةِ شيكاغو، وعبد الله حمودي المغربي، وحسن مُدرِّسي (الإيراني الجنسية)...
ولعلَّ ثاني أهم خصائص الاستشراق الأمريكي التي امتاز بها، ما أطق عيه الباحث بـ: العناية الفائقة بالظاهرة الإسلامية، إذ لم يكتفِ الاستشراق الأمريكي بدراسةِ الإسلام وصلتهِ بالتصوف كما فعل الاستشراق التقليدي، بل انتقل إلى دراسةِ المجتمعات الإسلامية ذاتها دينياً وسياسياً وإجتماعياً وثقافياً... كما دَرَس العلاقة بين الشعوب والمجتمعات الإسلامية والخِلافات القائمة والكامنة فيها، ومدى صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق كما ركَّز المستشرقون على ما أسموه بالإسلام السياسي والحركات الإسلامية ومناقشة برامجها وطموحاتها.
كذلك تُعد العناية بالدراسات الإقليمية / دراسة المناطق، واحدة من مميزات الاستشراق الأمريكي، التي تُمثل تطوراً ومنحىً جديداً في الدراسات الإستراتيجية الأمريكية، فقد أصبح لهذهِ الدراسات أقسام خاصة بها في كثيرٍ من الجامعات الأمريكية، وقد كتب مورو بيرجر Morroe Berger دراسةً قدمها لرابطة دراسات الشرق الأوسط، نُشرت سنة 1967م حدد فيها أهداف الاستشراق الأمريكي المعاصر، كما حدد مجالات الدراسات الإقليمية، فمن ناحية الأهداف، ذكر أنَّها تتلخص في معرفةِ المنطقة وفهمها كما هي الآن، بما في ذلك اختلافاتها الداخلية والمظاهر المشتركة للمؤسَّسات الإجتماعية والأوضاع الإقتصادية والكيان السياسي، والحياة الروحية والفكرية، وتأثير صناعة النفط والسكَّان والتعليم، وعلاقات الجماعات والقوميات... والتأكيد على الوضع الحالي لإعطاء الشعب الأمريكي نقطة البدء في تقرير ما يحتاج إلى معرفتهِ.

الباحث الثاني كان الدكتورة صباح إبراهيم الشيخلي، التي كرَّست ورقتها البحثية حول (المستشرق الإنكليزي ترمنغهام والإسلام في شرق أفريقيا)، جاعلةً مقدمة ورقتها البحثية عرضاً تفصيلياً واستعراضاً دقيقاً لنشأةِ الاستشراق الإنكليزي وتطورهِ.
كان المعبر الإسباني للثقافة العربية والإسلامية هو السبيل إلى اتصال بريطانيا بهذا المنبع الحضاري عندما أرسلت بعلمائها ومتخصصيها إلى الجامعات الإسلامية التي كانت تشيع النور الحضاري إلى أرجاء المعمورة، فقصدها العديد منهم منذ القرون الوسطى واغترفوا من ذلك المنبع مناهل المعرفة والعرفان، وكان أولهم إدوارد أوف باث Path الذي ترجم الفلسفة اليونانية من العربية إلى اللاتينية. وتوالى من بعدهِ ذلك الجيل من الباحثين الذين كان همهم التعرف إلى الإسلام وحضارتهِ بغية كشف أسرارهِ، والتعرف إلى سرِّ عظمتهِ، وتلمس مواقع القوة والضعف فيه توطئةً للقضاء عليه إمَّا بتنصير أتباعهِ وإمَّا بالاستيلاء على أراضيه. وبهذا يكون الدافع الديني هو الذي حدا بالإنكليز إلى التوغل في مجال الدراسات الاستشراقية. وعندما توالت الأحداث التاريخية وخرج العرب من إسبانيا وصقلية وجنوب فرنسا، وبدأت الحروب الصليبية التي شملت العالم الإسلامي برمَّتهِ من شمال أفريقيا إلى الشرق الأدنى، واصل الإنكليز هذهِ الدراسات الاستشراقية بغية تحقيق أهداف تجارية واقتصادية وسياسية. وزاد الاهتمام البريطاني بمنطقةِ الشرق بعد أن سيطرت على مقدراتهِ السياسية، واستعمرته بصورةٍ مباشرة، وأناخت بكلكلها على الهند ومصر وغيرها من الأقطار الأخرى الإسلامية، فعمَّقت من هذهِ الدراسات التي لا مناص لها من إجرائها، باعتبارها الأساس الثقافي والفكري لتمهيد الأرضية المناسبة للسيطرة المباشرة والهيمنة على مقدرات الشعوب الشرقية والإسلامية.
بدأ الاهتمام بالدراسات الاستشراقية في وقتٍ مبكِّر في بريطانيا وذلك عندما أسَّس السير توماس آدمز T. Adams (1586-1667) كرسي الدراسات العربية في جامعة كامبريدج عام 1632م. وتلا ذلك تأسيس كرسي آخر للعربية بجامعةِ أكسفورد عام 1636م. وتوالى الاهتمام بالدراسات الشرقية وخاصةً الهندية على يد وليام جونز، نتيجةً للروابط التجارية بينها وبين بريطانيا. ثمَّ ازدهرت الدراسات الاستشراقية بعد حملة نابليون على مصر، وتخريج أعداد كبيرة من المستشرقين الإنكليز على يدِ المستشرق الفرنسي دي ساسي.
وقد اختتمت الباحثة كلمتها بتقديم عرض تحليلي – نقدي لأحد أهم وأبرز مؤلَّفات المستشرق البريطاني جون سبنسر ترمنغهام، وهو كتاب: “الإسلام في شرق أفريقيا”. مبينةً من خلال استعراضها لهذا الكتاب أهمية الدراسات الأفريقية بصورةٍ عامة وضرورة توجيه طلبة الدراسات العليا في الجامعات العراقية إلى الاهتمام والعناية بدراسة تاريخ الإسلام والمسلمين في هذهِ القارة بصورةٍ خاصة.

الباحث الثالث المشارك في هذهِ الندوة، كان الدكتور محمود عبد الواحد القيسي، الذي تناول في ورقتهِ البحثية موضوع: (دراسة في أجيال المُستعربين اليابانيين). مبيناً أنَّ لليابان سماتٌ تربطها بالشرق والغرب على حدٍّ سواء. وهذا هو واقع التاريخ الياباني الحديث. ومن دون شك أنَّ البلاد تقع جغرافياً بما يُعرف بالشرق، إلاَّ أنَّها تحاول أن تصنع أمة «غربية» بالمفهوم السياسي، وبالعودة بالعالم قرناً إلى الوراء، كانت اليابان الأمة المتطورة الوحيدة في الشرق، فقد كانت أغلبية البلدان الآسيوية والأفريقية مستعمراتٍ تُعاني من استغلال القوى الغربية. وفي هذا السياق، فإنَّ الإستراتيجية التي تبنتها اليابان كانت متناقضة، وعندما يكون ضرورياً للأمة أن تصر على فرادة اليابان، فإنَّ التشديد يوضع في المقام الأول على روح الشرق. وقدر تعلُّق الأمر بمسألةِ الحضارة، تتصرف اليابان وكأنَّها دولة غربية بالتمام. فتبنَّت مفهوم أنَّ لنا سياسة آسيوية عندما احتاجت الأمة إلى التعاون مع البلدان الآسيوية الأخرى. ومارست سياسة إمبريالية وفقاً للطراز الغربي عندما حكمت مستعمراتها المجاورة.
حتَّى نهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن للباحثين اليابانيين معرفة معمَّقة بتاريخ العالم العربي، وبشكل خاص حركات التحرر التي قادت تباعاً إلى إستقلال الدول العربية. وقد كانت هناك قلَّة من اليابانيين الذين كتبوا دراساتٍ باليابانية عن منطقة الشرق الأوسط فكان منهم: ريئيتشي غامو، وإئيجيرو ناكانو، وتاكاشي هاياشي، عملوا في جامعات طوكيو University of Tokyo وأوساكا Osaka University، وقدموا دراساتٍ عامة عن الهند وإيران والعالم العربي. وكان إلى جانبهم دبلوماسيون يابانيون من أمثال أكيو كاساما، والباحث بالقضايا العربية شوجي تامورا. بالإضافةِ إلى الباحثين توراؤ كاواساكي، وماساناؤ أوداكا، وتوشيو تادا. وفي الفترة ما بين (1950-1973) برز نوع جديد من الباحثين اليابانيين المهتمين بالدراسات العربية. واتجه بعض الباحثين الجُدد لدراسةِ حركات التحرر في البلدان العربية والأفريقية. حيث كان الإختبار صعباً نظراً لغياب الدراسات العلمية الإمبريقية عن العالم العربي في اليابان. وكان عليهم التعرف بدقة إلى تطور التاريخ العالمي لمعرفةِ موقع الدول العربية فيه بهدف تعزيز علاقات اليابان معها. إلاَّ أنَّه وعلى الرغم من كلِّ هذهِ الجهود الكبيرة والمهمة في الدراسات العربية والإسلامية من قبل المُستعربين اليابانيين يمكن القول أنَّ حضور الثقافة العربية في اليابان لا يزال ضعيفاً بالقياس إلى انتشارها الواسع في الغرب، بجناحيهِ الأوربي والأميركي. وبما أنَّ الباحث الياباني حديث العهد بالثقافة العربية، فهي تنتشر فقط في أوساطٍ ضيقة من النُخب الثقافية وسط جمهور ياباني لا يعرف إلاَّ القليل عن العرب وثقافتهم، ولأسبابٍ ذاتية وموضوعية، ولا تزال قضايا العرب التاريخية الكبرى، ومكونات الثقافة العربية، ومشكلاتها، وجمالياتها، ضبابية لدى الجمهور الياباني الواسع.
خلاصة واستنتاجات
•    من خلال الإطلاع على كتابات المُستعربين اليابانيين في القرن العشرين ومنهجهم في الكتابة في موضوع الدراسات العربية والإسلامية المختلفة، نجد أنَّ الدراسة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية قد تميزت بمنهجين، الأول جيل الرواد الكبار من المُستعربين الذين تميزوا بشمولية البحث في تاريخ العرب والإسلام، والاهتمام بالآداب والفنون. ويتمثل الثاني في توجه الجيل الحالي إلى مرحلة التخصص الدقيق في جانبٍ محدد من الآداب أو الفنون أو التاريخ، وتقديم رؤية متخصصة في بعض جوانب القضايا العربية المعاصرة. كما برز تعاطف إيديولوجي مع القومية العربية وحركات التحرر الوطني العربية.
•    نجد أنَّ جلَّ المُستعربين اليابانيين المعاصرين قد استقوا معلوماتهم وشغفهم بهذا الاختصاص من الرعيل الأول الذين سكنوا في الدول العربية لسنواتٍ طوال، وخاصةً تعلُّم اللغة العربية وإجادتها، هؤلاء كتبوا دراساتٍ مهمة تنم عن احترامٍ عميق لتاريخ العرب وتراثهم وثقافتهم ونضالاتهم، وأسَّسوا لحركةٍ ثقافيةٍ واسعة.. وشَهِدَت المرحلة الأولى ولادة كثير من المراكز الثقافية التي تُدرِّس اللغة العربية، وفي الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتَّى الأزمة النفطية للعام ‬1973، برز اهتمام كبير من جانب الحكومات اليابانية المتعاقبة بالدول العربية والإسلامية. فأنشأت اليابان معاهد متخصصة لدراسة تاريخ العرب والثقافة الإسلامية. واستفاد الباحثون الرواد من فرض حظر التسلُّح الغربي على اليابان، لتأسيس نمطٍ جديدٍ من الاستعراب العلمي يختلف جذرياً عن نمط الاستشراق الغربي.
•    ويُعد البروفيسور يوزو إيتاغاكي Itagaki Yūzō، أحد أبرز المُستعربين المتخصصين بتاريخ العرب الحديث والمعاصر، الذي زار غالبية الدول العربية. وأصدر دراساتٍ علميةٍ مشتركة مع الباحث الياباني المتميز سان إيكي ناكاؤوكا، شكَّلت خارطة طريق مهمة للباحثين اليابانيين في دراسةِ مشكلات العالم العربي، وتوسَّعت الدراسات العلمية اليابانية لتطول البُنى الزراعية، والأحزاب والتنظيمات والصراع العربي الصهيوني. وكانوا من أشدِّ المناصرين لقضية الشعبين الفلسطيني واللبناني، ونذكر المصور الياباني ذا الشهرة العالمية ريوشي هيروكاوا Ryuichi Hirokawa، الذي كان أول مصور صحافي ساهم في الكشف عن مجزرةِ صبرا وشاتيلا، التي ارتكبت بعد احتلال إسرائيل لبيروت عام ‬1982.
•    وأخيراً فقد شَهِدَ العَقد الأول من القرن الحالي، زيادةً في عدد المؤسَّسات الثقافية اليابانية المهتمة بالعالم العربي، واتسعت معها دائرة اهتمام الباحثين العرب بصورةٍ عامة والعراقيين منهم بصورةٍ أخص في دراسةِ الثقافة اليابانية من مختلف جوانبها. وهناك عدد كبير من الباحثين المتخصصين بشؤون الشرق الأوسط، كما يُعد عشرات الباحثين اليابانيين والعرب دراساتٍ أكاديمية نوعية عن المجتمعات العربية وعن اليابان في حقولٍ مختلفة. ويعملون على إنجاز أبحاثٍ ميدانية متخصصة، في عددٍ من الدول العربية. كما يُنظَّم سنوياً، سلسلة مؤتمرات ثقافية من قبل الجانبين تتميز بالابتعاد عن المقولات الإستشراقية السائدة. فهي تقدم تاريخ شعوب الشرق الأوسط وثقافاتها، بعيونٍ يابانية وليس غربية، كما ذكرنا سابقاً.

الأستاذ الدكتور طارق نافع الحمداني، كان الباحث الرابع؛ والأخير؛ المُشارك في هذهِ الندوة العلمية، الذي ركَّز من خلال ورقتهِ البحثية، المعنونة بـ: (توجهات المستشرقين البريطانيين.. سير رونالد ستورس أنموذجاً) على تناول المنهج العلمي الذي تميَّز بهِ الاستشراق البريطاني بصورةٍ عامة، محدداً الخصائص المميزة للدراسات الاستشراقية البريطانية بشموليتها وتعددها، كونها تناولت سائر الدراسات الشرقية من علمٍ وفنٍّ وأدبٍ وتاريخ وفلسفة وعِمَارة وآثار... كما أنَّ هذهِ الدراسات لم تقتصر زماناً على فترةٍ تاريخية محددة ولكنها تناولت الشرق القديم والحديث. أمَّا بالنسبةِ للمكان فإنَّها قد شملت الشرق بكاملهِ ولم تقتصر على الشرق الأوسط فقط. والسبب في ذلك يعود إلى اهتمام بريطانيا السياسي بالهند وجنوب شرق آسيا. غير أنَّ مصالحها السياسية المتجددة دفعتها إلى التركيز على منطقة الشرق الأوسط إبَّان وبعد الحرب العالمية الأولى لأهمية قناة السويس الإستراتيجية، ولاكتشاف النفط بكمياتٍ ضخمة في هذهِ المناطق، ولاتساع المبادلات التجارية بينها وبين أقطار الخليج والسعودية والهند.
كما يمتاز الاستشراق البريطاني بالتخصص بالنسبةِ إلى دارسيه، فنجد كلَّ مستشرق يتخصص بنوع معين من الدراسات الاستشراقية. وقلَّما تجد مستشرقاً بريطانياً شملت دراساته وبحوثه معظم مجالات الدراسات الاستشراقية. وكما كان التخصص النوعي هو ميزة البريطانيين فإنَّ العديد منهم تخصص كذلك في المناطق المشمولة بهذهِ الدراسة.
وبالرغم من سيطرة الدوافع السياسية على الدراسات الاستشراقية البريطانية فإنَّ هذهِ الدراسات لم تُهمل الدوافع الدينية قديماً وحديثاً وما انتشار البعثات التبشيرية البريطانية في الشرق الأوسط وأفريقيا إلاَّ دليل واضح على ذلك.
أمَّا بالنسبة للأنموذج الذي اتخذه الباحث عن المستشرقين البريطانيين، وهو السير رونالد هنري ستورس Sir Ronald Henry Amherst Storrs (1881-1955)، المسؤول في مكتب الشؤون الخارجية والاستعمارية البريطاني. والذي كان سكرتير شرقي في القاهرة، والحاكم العسكري للقدس، حاكم قبرص، وحاكم رودسيا الشمالية. دَرَس رونالد ستورس في كلِّية كارترهاوس Carter House College وكلِّية پمبروك، كمبردج Pembroke College حيث حصل على الشهادة من الدرجةِ الأولى في التريپوس الكلاسيكي. دخل ستورس وزارة المالية المصرية عام 1904، بعد خمسِ سنوات من تعيينهِ سكرتير شرقي للوكالة البريطانية، خلفاً لهاري بويل. عام 1917، أصبح ستورس موظَّف سياسي ممثلاً لقوة التجريدة المصرية في بلاد الرافدين كضابط اتصالات في البعثة الإنگلو – فرنسية في بغداد وبلاد الرافدين حيث إلتقى گرترود بل وسير پرسي كوكس.
أثناء الحرب العالمية الأولى كان ستورس عضواً في المكتب العربي وشارك في المفاوضات التي عُقدت بين الشريف حسين (1853-1931) والحكومة البريطانية، وشارك في تنظيم الثورة العربية. كانت مواقفه الشخصية عندما طالب الشريف حسين بالمزيد من الأراضي العربية أكثر مما يستحق، وأنَّه يجب ضمَّ سوريا وفلسطين تحت سيطرة الإمبراطورية المصرية تحت الرقابة البريطانية كبديلٍ للدولة العثمانية. بالإضافة إلى العديد من الأدوار والمناصب السياسية التي تولاَّها هذا المستشرق الإنكليزي في النصف الأول من القرن العشرين. حيث تُعد مذكَّراته التي تُرجمت للعربية واحدةً من أبرز وأهم الوثائق البريطانية التي تشرح بشكلٍ تفصيلي ودقيق طبيعة السياسة الاستعمارية التي نهجتها بريطانيا تجاه دول الشرق الأوسط على وجهِ التحديد. 

وأخيراً، فقد تمَّيزت هذهِ الندوة العلمية بحضور كوكبة من علماء التاريخ والفكر الإسلامي من مختلف الجامعات والمؤسَّسات العلمية العراقية... الذين أغنوا موضوع الندوة بمناقشاتهم العلمية.

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل الخبر